الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
ولمَّا صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في مرضه الذي تُوُفِّيَ فيه بالناس وهو جالسٌ يعني مع قيام القوم دَلَّ على أن الجَلوسَ خلف الإِمام الجالس ليس من لوازم الائتمام عنده، وهو مذهبُ الإِمام رحمه الله تعالى، وصرَّح في موضعين من كتابه بنسخ ما جاء في واقعة السُّقُوط عن الفرس، كما سيجيء. قوله: (وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا رَفَعَ قبل الإِمام)... الخ، يعني: سُئِلَ ابن مسعود رضي الله عنه عن رجلٍ من المقتدين سها فرفع رأسَه قبل الإِمام، فماذا يفعل؟ فما أجاب به ابن مسعود رضي الله عنه هو الجواب عندنا. قوله: (وقال الحسن).. إلخ، وهو المختار عندنا. ويُقَال لها مسائل السجدات، وقد ذكرها ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في فصل مستقلٍ من «الفتح» والقاضي ثناء الله رحمه الله تعالى في «ما لا بُدَّ منه»- رسالة بالفارسية . 687- قوله: (فأَرْسَل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى أبي بكرٍ بأن يُصَلِّي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَأْمُرُك أن تُصَلِّي بالناس... فصلَّى أبو بكرٍ تلك الأيام. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وَجَدَ في نفسه خِفَّة، فخرج بين رجلين)... إلخ. حمل الحافظ قوله: «فصلَّى أبو بكرٍ رضي الله عنه» على السلسلة الواحدة، وادَّعى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أراد أن يَخْرُج في العشاء، فلم يَقْدِر عليه، حتى أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يُصَلِّي بهم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يُصَلِّي في تلك الأيام. ثم إن قوله: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وَجَدَ من نفسه خِفَّةً» حمله الحافظُ على صلاة الظُّهْر. قلتُ: لمَّا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يُصَلِّي بالناس، انتقل الراوي إلى بيان إمامته في تلك الأيام، ثم بَدَأَ في ذكرِ ما كان تركه، فقال: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم .... الخ، أي: وأنه وإن كان أمره بالصلاة في أوَّل أمره، إلا أنه وَجَدَ بعد ذلك من نفسه خِفَّة، فَخَرَجَ إليهم وخَطَبَهم، أمَّا خروجه إليهم، فكما مرَّ في البخاريِّ: «أن أزواجه إذا صَبَبْنَ عليه القِرَب، أشار إليهن: أن قد فَعَلْتُنَّ، ثم خرج إلى الناس». ويُتَبَادَرُ منه أيّ تبادُرٍ أنه خرج في تلك الصلاة، لا خروجه في صلاة ظُهْرٍ من السبت أو الأحد. وأمَّا خطبته إياهم، فكما أخرجه البخاري قُبَيْل باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} (البقرة: 146) الخ: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه بِمِلْحَفَة، وقد عَصَّبَ رأسه بعِصَابة دَسْمَاء، حتى جَلَسَ على المنبر، فَحَمِدَ اللَّه وأَثْنَى عليه، ثم قال: أمَّا بعدُ- إلى أن قال- فكان آخر مَجْلِس جَلَسَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم . 689- قوله: (إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عنه فَجُحِشَ شِقُّه الأيمنُ). وأعلم أن واقعةَ الجُحُوش في السنة الخامسة، كما نُقِلَ عن ابن حِبَّان وسَهَا الحافظُ حيث زَعَم أنها في التاسعة، وإنما حَمَلَه على ذلك تعبيرُ بعض الرواة فقط، حيث يَذْكُرُون قصة الجُحُوش وقصة الإيلاء في سياقٍ واحدٍ. وقصة الإيلاء عندهم في التاسعة، فجَعَلَ الحافظُ تلك أيضًا فيها، مع أن الراوي إنما جمعها مع الإيلاء لجلوسه فيهما في المَشْرُبَةِ، وقد تنبَّه له الزيلعي. ويقضي العجب من مثل الحافظ، كيف حَكَمَ به بمجرد هذا الاشتراك، مع أن الرُّوَاة يُصَرِّحُون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُصَلِّي في مَشْرُبَتِهِ في قصة الجُحُوش، وأين كان له أن ينزل منها، فإِنه كان شَاكِيًا فيها، بخلافه في قصة الإيلاء. ثم اعلم أنهم تكلَّموا في زيادة: «وإذا قرأ فأَنْصِتُوا»، فأراد بعضُهم أن يتردَّد فيه، مع أن مسلمًا صحَّحه. وصحَّحه جمهور المالكية والحنابلة، ولم يتأخَّر عن تصحيحه إلا من اختار القراءة خلف الإِمام، فأتى فِقْهه على الحديث، لا الحديث على فِقْهه. والذي يَرِيبُهم فيه: أن بعضَ الرُّوَاة لا يذكرونه في أحاديث الائتمام، فظنُّوه غير محفوظٍ، وكَشَفْتُ عن هذه المغلطة بِعَوْن الله سبحانه ومَنِّه عليَّ بأن حديث الائتمام قد صدرت عن هذه الرسالة مرتين: مرَّةً في تلك الواقعة، ومرَّةً أخرى في غير تلك القصة بعدها بكثير. فإذن هما حديثان مستقلان في هذا الباب، لا أنهما حديثٌ واحدٌ اخْتُلِفَ في ألفاظه، فما يَرْوِيه أنسٌ، وعائشةُ وجابر رضي الله تعالى عنهم من حديث الجُحُوش سِيقَ لبيان: إذا صلَّى قائمًا، فصَلُّوا قِيَامًا، وإذا صلَّى قاعدًا، فَصَلُّوا قَعُودًا أجمعون، وما يرويه أبو موسى، وأبو هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه، فهو حديثٌ آخر سِيقَ لبيان الائتمام لا غير، وفيهما: «فإِذا قرأ فأَنْصِتُوا»، وقد مَشَى فيها على أكثر صفة الصلاة للمتقدي، فلم يكن لَيَذَرَ حكمَ القراءة، وقد مَضَى على صفة الصلاة نسقًا، بخلاف حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأبي موسى. ولذا لم يأتِ فيه الأمر بالإنصات، ولعلَّهما لم يُدْرِكَا واقعة السُّقُوط، فإِنها في السنة الخامسة كما مرَّ، وأبو هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه أَسْلَم بعده بكثير. ثم اشْتَرَكَ الحديثان في بعض الأمور، فلمَّا رأوا أحاديث واقعة السُّقُوط خاليةً عن أمر الإنصات، سَرَى إلى الوهم أن حديثي أبي موسى وأبي هُرْيَرَة رضي الله تعالى عنهما في الائتمام أيضًا ينبغي أن يَكُونا خاليين عنه، وهذا كما قيل: إن الوَهْمَ خلافٌ. مع أنك قد عَلِمْتَ أنهما حديثان، فلا يجوز حَمْلُ أحدهما على الآخر، وليسا من باب السَّاكت والنَّاطق، ولا من باب الزيادة. ولعلَّه لم يَذْكُر قوله: «وإذا قرأ فأنْصِتُوا» في قصة السُّقُوط لعدم الاحتياج إليه إذ ذاك، بخلافه في حديثي أبي هُرَيْرَة وأبي موسى رضي الله تعالى عنهما، فإِنهما لمَّا كانا من باب أحكام الاقتداء، وَجَبَ التعرُّض إليه، لكونه دِعَامة في هذا الباب، وربَّما يَحْكُم الذهن بالاتحاد نظرًا إلى اشتراك بعض الألفاظ. وبعبارةٍ أخرى: إن حديثَ الائتمام يَرْوِيه خمسٌ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ أنس، وجابر وعائشة، وأبو هريرة، وأبو موسى رضي الله تعالى عنهم، مع الاشتراك والاختلاف في بعض الألفاظ، فظنَّه المحدِّثون حديثًا واحدًا. ولمَّا لم يَجِدُوا عند أكثرهم جملة: «إذا قرأ»، حَكَمُوا بكونه غير محفوظٍ، وقرَّرتُ أنهما حديثين اشتركا في بعض المادة. (والدليلُ على ذلك). أمَّا أولا: فإن أبا هريرة، وأبا موسى رضي الله تعالى عنهما لم يُدْرِكَا قصة السُّقُوط، فحديثهما ليس حديثَ السُّقُوط الذي يرويه أنسٌ رضي الله تعالى عنه وغيره. وأمَّا ثانيًا: فلأن حديثهما لم يُسَقْ لإِصلاح مفسدةٍ، بل هو حديثٌ ابتدائي سِيقَ لتعليم أحكام الائتمام، كما استشعره أبو موسى رضي الله تعالى عنه. فعند مسلم في باب التشهُّد: «فقال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: أَمَا تَعْلَمُون كيف تقولون في صلاتكم؛ إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم خَطَبَنا فبيَّن لنا سُنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا»، ثم ساق حديث الائتمام. فدَلَّ على أن ما عند أبي موسى رضي الله تعالى عنه هو حديثٌ في سياق التعليم، بخلاف ما عند أنسٍ رضي الله تعالى عنه، وجابر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها، فإنه وإن اشتمل على ذكر الائتمام، لكنه سِيقَ عندما قاموا خلفه حال قعوده، فعلَّمهم سنة الاقتداء. فليس حديثهم ابتدائيًا، ولس فيه ذكر الإنصات مع قراءة الإِمام، والذي سِيقَ لتعليم ذلك، ففيه ذلك ولا بدَّ، والله هو الموفِّق. وهذا مهمٌّ لا يهتدي إليه إلا من يَهْدِي الله، وقد ذكرته في رسالتي «فصل الخطاب». بقيت مسألةُ اقتداء القائم خلف القاعد، فسنعود إليها قُبَيْل كتاب التهجُّد إن شاء الله تعالى، وقد ذكرنا نَبْذَةً منها فيما مرَّ. 689- قوله: (فصَلَّيْنا وَرَاءَه قُعُودًا). وفي الحديث المارِّ: «أنهم صلُّوا خلفه قيامًا، ثم أمرهم بالقيام»، وتصدَّى الحافظُ رحمه الله تعالى إلى التوفيق بينهما. واختار الشيخُ العَيْني رحمه الله تعالى أنهما واقعتان قاموا في واقعةِ، ثم أُمِرُوا بالقُعُود، واتَّفَقَ بعدها أن سَلُّوا خلفه أيضًا، وقَعَدُوا فيه من أول الأمر، وهو الأرجح عندي. 689- قوله: (وإذا قال: سَمِعَ اللَّه لمن حَمِدَه، فقولوا: رَبَّنَا ولك الحمدُ) واعلم أن الشَّرْعَ لم يقسم في الصلاة إلا في موضعين: الأول: في القراءة، فَجَعَلَ للإِمام القراءةَ، وللمقتدي التأمينَ. والثاني: في التسميع والتحميد. فالإِمامُ يقضي وظيفته أولا، وهو قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ}، وهذا هو وظيفةٌ من جهة الإمامة، ثم يَلْحَقُ بسائر المصلِّين، ويُؤَمِّنُ معهم إحرازًا لفضيلة التأمين، والموافقة معهم ومع الملائكة. ولذا يُؤَمِّن خُفْيَةً كأنه من فعله، مع أنه قرأ جهرًا. فالقراءةُ جهرًا من وظيفته، فأراد إسماعها وأمَّا التأمينُ، فليس من وظيفته، فأدَّاه سِرًّا لنفسه، كما أن المقتدين أمَّنوا لأنفسهم. وذلك لأن الأذكارَ كلٌّ فيها أمير نفسه، ولم يُرَاع فيها شاكلة الجماعة، فيستقلُّ بها كلُّهم. والموضع الثاني: هو التسميع، فالتحميدُ للمقتدين، والتسميعُ للإِمام، وهو المذهب عندنا في المشهور، وهو في عامة الروايات، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى. وعنه في روايةٍ: الجمعُ وهو مذهب الصاحبين، واختاره شمس الأئمة الحلواني، ومحمد بن الفضلِ، والنَّسَفِي وغيرهم وهو أيضًا جائزٌ عندي، وتَشْهَدُ له الروايات على سبيل القِلَّة والعجبُ أن الروايةَ المشهورةَ عن الإمام في الروايات المشهورة، والروايةَ النادرةَ عنه في نادرةٍ من الروايات. فكأن القولَ المشهورَ نشأ نظرًا إلى عامة الروايات، ولمَّا جاء الجمعُ أيضًا في بعض الروايات جاءت روايةٌ عنه أيضًا كذلك. 689- قوله: (إنما يُؤْخَذُ بالآخِرِ فالآخِرِ)، وهذا تصريحٌ من المصنِّف رحمه الله بالنَّسْخ، وقد صرَّح به في موضعٍ آخر، وصرَّح هناك الحافظ رحمه الله: أن مقتضى الأدلة استحباب القُعُود خلف القاعد، ولا دليلَ على الوجوب. قلتُ: وإذا انتفى الوُجُوب على تصريح الحافظ رحمه الله، فلا ريبَ أن الأحوطَ هو القيام، لأنه ذَهَبَ إليه الإمامان الجليلان. وعندنا: العملُ بما عَمِلَ به الأئمة والأُمَّة أَوْلى.
تعرَّض إلى ما ينبغي للمقتدي مع إمامه من المُعاقبة، أو المُقَارنة. فاعلم أنه اتَّفق كلُّهم على أن المُبَادرة من الإمام مكروهٌ تحريمًا، مع صحة صلاته عندهم، وهذا يَدُلُّ على اجتماع الصحة مع الكراهية، خلافًا لابن تَيْمِيَة رحمه الله. واختلفوا في التعقيب والمقارنة. فذهب الشافعيُّ رحمه الله إلى الأول، وإمامُنا إلى الثاني. قلتُ: والتعقيبُ بقَدْرِ ما يعلمه المقتدي من حال إمامه مستثنى عقلا، والفاء لا تَدُلُّ على التعقيب الزائد على ذلك، فدلَّ على أن نزاعهم في الفاء غير محرَّر، فإنها وإن كانت للتعقيب، لكنه يتحقَّق بالشروع بعد الشروع. ولا يَلْزَمُ لتحُّقق التعقيب أن يَشْرَعَ بعد فراغ الإمام، فنزاع الإمام إنما يكون ممن يدَّعِي الشروع بعد الفراغ، لا ممن يدَّعي الشروع بعد الشروع. فإن شروع المقتدي لا يكون إلا بعد شروع الإِمام. فهذا القَدْرُ من التعقيب يكفي للفاء، ولا يُنْكِرُه الإِمام أيضًا وأمَّا بعد ذلك، فيقول بالمقارنة، ولا حُجَّة في الحديث على التعقيب أزيد من هذا. 690- بقي قوله: (لم يَحْنِ أحدٌ منا ظَهْرَه) فقد كَشَفَه ما عند مسلم: «أنه أمرهم بذلك حين بَدُنَ، فخشي أن يتقدَّموا عليه»، وقد عَلِمْتَ أنه مكروهٌ تحريمًا.
ولعلّ الحكمةَ في تحويل رأسه حمارًا: أنه فَعَلَ فِعْلَ الحمار، ولم يَدْرِ أنه إمامٌ أو مأمومٌ، فرفع رأسه قبل الإِمام، ونَصَبَ نفسه مَنْصِب الإِمام مع كونه مأمومًا. ثم المذكور في الحديث هو الخَشْيَة أن يفعل به ذلك، لا أنه إخبارٌ به، ومع ذلك وقع مثله مرةً كما كتبه القاري، والعياذ بالله العلي العظيم. ثم أقول: إنه محمولٌ على التهديد في الدنيا، ولا يَبْعُد أن يكون ما في الحديث حكمه في الآخرة، فَيْمسَخُ رأسه رأس حمار، والعياذ بالله تعالى.
وصرَّح الحنفية أن الكراهة فيها تنزيهية. قوله: (والمولى)، قالوا: إنه مصدرٌ ميمي، وأورد عليهم أنه يذكَّر ويؤنَّث، فيُقَال: مولاة، والمصدر لا يذكَّر ولا يؤنَّث. وعندي أنه اسم مفعول أصله مولية، فحذف فيه كما حذف في لفظ المعنى، فهو لفظ آخر وليس مؤنَّث المولى. قوله: (من المُصْحَفِ)، والقراءة من المُصْحَفِ مُفْسِدَةٌ عندنا، فتأوَّله بعضُهم أنه كان يَحْفَظُ من المُصْحَف في النهار، ويقرؤه في الليل عن ظَهْرِ قلب. قلتُ: إن كان ذَكْوَان يقرأُ من المُصْحَفِ، فلنا ما رواه العَيْنِي رحمه الله: أن عمر رضي الله عنه كان ينهى عنه، ورأيتُ في الخارج: أنه كان من دَأْب أهل الكتاب، فإِنهم لا يتمكَّنون أن يقرأوا كُتُبهم عن ظَهْر قلبٍ، على أنه مخالفٌ للتوارث قطعًا. قوله: (وولد البَغِيِّ)، والكراهةُ فيه تنزيهيةٌ إذا كان صالحًا، وكذا في الأعرابيِّ، والغلام الذي لم يَحْتَلِم، وهو مذهب الشافعية، وتمسَّك له البخاريُّ بقوله صلى الله عليه وسلّم «يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ»، فأطلق فيه ولم يَفْصِل بين أن يكون أعرابيًّا أو غلامًا، ولا يُمْنَعُ الغلام عن الجماعة، فإِذا لم يكن له مانعٌ، فأيُّ قصورٍ في إمامته؟ ثم أخرج حديثًا وَرَدَ في باب الولاية، فتمسَّك منه على الإِمامة الصغرى، لكونهما من بابٍ واحدٍ. وهذا على نحو ما حرَّره الأصوليون من اعتبار عين العلِّة في عين حكم الحكم، والجنس في الجنس، والعين في الجنس، والجنس في العين، والمتحقِّق ههنا هو الثاني. فالحديث مَسُوقٌ في الإِمامة العامة، وكذا المراد من الإطاعة هو عدم البغاوة، دون الإطاعة في أفعال الصلاة، وتمسَّك منه المصنِّف رحمه الله على الإمامة في الصلاة. وإذن تمسُّكه منه على الإمامة الصغرى والإِطاعة فيها من باب اعتبار جنس الوصف- أي الإِمامة الصغرى- في جنس الحكم- أي الإِطاعة في أمر الصلاة- وأنت قد عَرَفْتَ أن التمسُّكَ بالعمومات ضعيفٌ عندي؛ ألا ترى أنّ كون الإمام قُرَشِيًّا من شرائط الإمامة العامة، بخلاف إمامة الصلاة؟ فإن تَمَسَّكَ أحدٌ من قوله: (اسْتُعْمِل) فسيأتي شرحه عن قريبٍ بما لا يَرِدُ علينا. وتمسَّك الشافعية بإمامة عمرو بن سَلَمة عند أبي داود. قلتُ: وجوابه على ما في حديثه من تَطَرُّق الاحتمالات: أنَّ البخاريَّ لم يخرِّجه ههنا، مع اختياره تلك المسألة، وأَخْرَجَهُ في النكاح، لأنه لا يَقُوم عنده حُجَّة على هذا المعنى أصلا، ولا أقل من أنه رأى فيه قصورًا. والجواب عندي: أن في القصة تقديمًا وتأخيرًا، فما ذكره من عُمْره هو عُمْر تعلُّمه القرآن دون عُمْر إمامته، كما يُعْلَمُ من مراجعة كتب الرجال، فإن كنتَ من رجال هذا الفن. فبارِزْ، وإلا فالزَمْ زاوية بيتكَ ولا تُنَازِعْ. 693- قوله: (وإن اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ) أي وإن جعله الإِمام الأكبر عاملا، كما هو مصرَّحٌ في بعض الطُّرُق، وإلا فالإمام الأكبر ينبغي أن يكون قُرَشِيًّا. ونقل الطرابلسي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه ليس بشرطٍ، وظاهر العبارة أنه شرطٌ إجماعًا.
أشار إلى مسائل القدوة، وهي ضعيفة عند الشافعية جدًا، حتى قالوا بصحة صلاة القوم، وإن كان إمامهم مُحْدِثًا كما في الفتح، فكأن حقيقة الائتمام ارتفعت عندهم رأسًا، ولم تَبْقَ إلاّ عبارة عن الاجتماع في المكان، والاتباع صورةً وحسًّا، فهي ضعيفةٌ عندهم جدًا، وأضعف منه عند البخاري رحمه الله تعالى. وحينئذٍ لا بأس لو قَصَرَ الإِمام في التعديل وغيره وأتمَّهُ المقتدي وتَدَارَكه لنفسه. بقي تمسُّك الإمام، فهو تمسُّكٌ في غاية الضَّعْفِ، لأن الحديث إنما وَرَدَ فيما قَصَرَ الأئمة في الأمور الخارجية، كصلاتهم في الوقت المكروه، لا في الواجبات والأركان التي هي أجزاءٌ للصلاة، كما قال به القاضي عِيَاض رحمه الله تعالى، وهو المُصَرَّحُ في غير واحدٍ من الأحاديث، فَحَمْلُه على الدواخل بعيدٌ جدًا. 694- قوله: (فإِن أصابوا فلكم)، وفي كُتُب عديدة: «فلكم ولهم»، كما يقتضيه مقابلة: «فلكم وعليهم». وتمسَّك المصنِّف رحمه الله تعالى من عموم قوله: «فلكم وعليهم»، وهو في غاية الضَّعْف، فإِنه أمرٌ مُبْهَمٌ لا يدرى في أي قدرٍ يجري عمومه، وأين يُكَفُّ، فالطرد عليه والعكس غير سديدٍ. وتفصيله: أن الشافعية ومن نَحَا نحوهم لمَّا رأوا أن خطأ الإِمام لا يُؤَثِّر في صلوات المقتدين بنصِّ الحديث، عمَّمُوه في باب الحَدَث أيضًا، وقالوا: إذا أخطأ الإِمام فصلَّى بهم مُحْدِثًا، صحَّت صلاتهم أيضًا، ولا يُؤَثِّر خطؤه في صلاتهم أصلا، بل يكون لهم ما لهم وعليه ما عليه. قلتُ: وهذا باطلٌ، لأنه صلّى بهم صلاةً سُلِبَ عنها اسم الصلاة، لأنه لا صلاة إلا بطُهُورٍ وتعميم قوله: «لكم وعليهم» إنما يجري فيما بَقِيَ عليه اسم الصلاة، كما وَرَدَ في مسلم: «لا ما سلُّوا»، يعني أن إطاعتهم تكون ما بقي اسم الصلاة، وإذا ارتفع عنها اسم الصلاة أيضًا، فلا طاعة لهم. ثم إن هذا التعبير لم يَرِدْ إلا في الانتقاص، لا في الارتفاع، فعند أبي داود، في باب جُمَّاع الإمامة وفضلها: «من أمَّ النَاس، فأصاب الوقت، فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئًا، فعليه ولا عليهم». ا ه. فهذا كما ترى فيما انتقص منها، لا فيما ارتفع عنها اسم الصلاة، لتندرج تحته مسألة الإمام المُحْدِث. وفي «البحر»: أن الجماعة أفضل من الانفراد، ولو كان الإمام فاسقًا، وعليه ما عليه. فهذه المسألة من فروع قوله صلى الله عليه وسلّم «وعليهم ما عليهم». ثم أقول: إنهم يَتَمَسَّكون من هذه المبهمات، ولا يَرَوْن إلى أحاديث الائتمام مع وضوحها، ومع كونها في الأشياء الوجودية، فإِنها للمتابعة في الأفعال، بخلاف هذه الأحاديث، فإنها في التروك، ولم يتَّضِح فيها أن أي قَدْرٍ من الاختلاف يُتَحَمَّل بين الإمام والمقتدي، وإنما فيه الإبهام لا غير. بقي أنه هل يجب علينا أن نُعَيِّن مِصْدَاقه بحَسَبِ مسائلنا أو لا؟ فأقول: إن الحديث لم يُسَقْ لِمَا فَهِمُوه؛ بل سِيقَ لتَسْلِيَة المقتدين في اقتدائهم بالأئمة الفُسَّاق، كما في الحديث الآتي: «ويصلِّي لنا إمام فتنة ونتحرَّج»، فهذا التحرُّجُ بحَسَب معتقداتهم الذهنية، أو الفِسْق الخارجي، كما يُسْتَفْتَى اليوم: إن إمامنا زوجته تَخْرُج بدون الحجاب، أو ليس بمتدِيِّن، أو يأكل الرِّبا، أو يصلِّي لغير الوقت مثلا. فهذه كلها نقائص من الخارج، لا أنهم تحرَّجُوا عن الاقتداء خلفهم لأن إمامهم كان يصلِّي بهم بدون طهارة، أو مع تَرْك التعديل، أو كان يُنْقِص في أجزائها، وحنيئذٍ لم يبقَ لنا حاجةٌ إلى تعيين مِصْدَاقه، لأنه لم يُسَقْ في أفعال الصلاة؛ بل سِيقَ لإزالة التحرُّج الذي حَدَث في أذهانهم بحَسَبِ الاعتقاد السوء للإمام، وهو ذهني، وهذا الذي أَرَدْنَاه بالدواخل والخوارج فيما مرَّ فأزاحه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وعلَّمهم أن نياتكم معكم، وعاقبتهم معهم. ومع هذا لو تبرَّعنا ببيان مِصْدَاقه كان أحسن فاعلم أن ما يُسْتَفَاد من كُتُب الحنفية في الاقتداء بالأئمة الذين يُميِتُون الصلوات أن يصلُّوها منفردين في أوقاتها، فإِن أدركوها معهم لا يُعِيدُون غير الظهر والعشاء. وأَقول من عند نفسي: لهم أن يُعِيدُوا سائرها إن خافوا الإيذاء منهم لقوله صلى الله عليه وسلّم «إن وَبَاله يكون عليهم».- بالمعنى- وقد مرَّ عن «البحر»: أن الإمام لو كان مُبْتَدِعًا، فإن لم تبلغ بدعته إلى حدِّ الكُفْرِ يَصِحُّ الاقتداء به، وهو أفضل من الانفراد، وكَتَبَ فيه هذا اللفظ، أعني: وعليه ما عليه. والابتداع قد يكون في أفعال الصلاة، وقد يكون في خارجها أيضًا. 694- قوله: (فإن أصابوا فلكم)، واتفق الشارحان أن هذه الأحاديث في الأوقات، فالمراد منها إصابة الوقت والخطأ فيه. وأما مسائل الشافعية فمن باب التَّفقُّه، وقد نَبَّهناك أنها لا تأتي تحت هذه الأحاديث، ولا يُنَاسِب استنباطها منها، ومع ذلك أدرجها الحافظ رحمه الله ههنا. وجملة الكلام: أن اللفظ وإن كان عامًا، لكن عمومه ليس بِمْنَوِيَ ولا مقصودٍ، والحديثُ أضيقُ ما حَمَلَ عليه الشافعية، فافهم.
قيل: الأحسن أن يقول: المُفْتَتَن، وقيل: الفَاتِن، ثم قيل: إن المفتون يُطْلَق على الفاتِن أيضًا. والمراد منه: من لا يَحْتَاط في دينه، ولا يَتَقَيَّدُ بالشرع في آدابه وعقائده حتى تذهب به نفسه كل مَذْهَبِ، لا من لم يكن يُحْسِنُ يصلِّي، أو يَقْصُر فيها، ليصِحَّ استدلال المصنِّف رحمه الله. 695- قوله: (ويُصَلِّي لنا إمام فِتْنَة، ونَتَحَرَّجُ)، وهذا الذي نَّبْهتُك عليه آنفًا: أن الحديثَ لم يُسَقْ لبيان المَخْرَج، ولم يعلِّمهم الاقتداء بهم، ولم يرغِّبهم في تطلُّب الجماعة خلفهم. وإنما وَرَدَ في تسليتهم، وتفريج تحرُّجهم، وتبريد صدرهم، وإذهاب حرِّهم، وإطفاء لوعتهم عندما اضْطَروا إلى الاقتداء بهم، فشقَّ عليهم الاقتداء لِمَا يَرَوْنَه مفتونًا مبتدعًا. وحمله الشافعية رحمهم الله تعالى على أنه وَرَدَ في صورة العمل، وهدى إلى المخلِّص في تلك الأيام، ونبَّه على ضعف رابطة القدوة جدًا فيمكن لهم أن يتداركوا لأنفسهم ما قَصَرَ فيه إمامهم، حتى يكون تكميله لهم وتقصيره عليه لا عليهم. وإذ قد عَلِمْت أنه لم يَرد في تقصيرهم في نفس أركان الصلاة؛ بل وَرَدَ في الأمور الخارجية التي أوجبت عليهم التشويش والتحرُّج في الاقتداء بهم، فكيف يمكن التكميل منهم فيما قَصَرَ فيه الإِمام في الخارج؟ وإنما يأتي التكميل من المقتدي فيما فَرَضْنَا أن الإمام قَصَرَ في أجزاء الصلاة، وإذا كان مَبْنَى التحرُّج عمَّا يفعله في الخارج لا يمكن تكميله في المقتدي في الصلاة؛ بل لا يُتَصَوَّر أيضًا. ثم إن سبب تهُّيج هذه الفتن: أن أمر المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه كان يَسْتَعْمِلُ أقاربه، وكان بعضهم لا يُحْسِنُون العمل، فَقَدَحَ الناس فيهم، وبلَّغُوا أمرهم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فلم يصدِّقهم وظنَّ أنهم يَغُرُّون بأقاربه بلا سببٍ، ولعلَّلهم لا يَطِيب بأنفسهم تولية أقاربه، فُيشُون بهم. ومرَّ على ذلك بُرْهةٌ من الزمان حتى جاءه محمد بن أبي بكر يَسْتَعْمِلُه، فأمر مروان- وكان كاتبًا له- أن يَكْتُب إذا جاءكم محمد بن أبي بكر فاقبلوه، فكَتَبَ مروان: فاقتلوه، مكان فاقبلوه، واتَّفق أن محمد بن أبي بكر فَعَلَ فِعْل المُتَلَمِّس، فَفَتَحَ المكتوب، فإِذا فيه أمر القتل، فرجع على أعقابه وقصَّه على عليّ رضي الله عنه، فطلب عليّ رضي الله عنه مروان، فلم يفعله عثمان رضي الله عنه، وعند ذلك أثارت تلك الفِتَن وهاجت حتى مضى عليه قَدَرُ الله، ثم إن عثمان رضي الله عنه وإن لم يَعْزِل أقاربه من أجل شكايات الناس، لكنه لم يَحْمِهم أيضًا. وفي كُتُب التاريخ: أن عليًّا والزُّبَيْر وطلحة رضي الله عنهم لمَّا رأوا أن الحال بَلَغَ هذا المَبْلَغ أرسلوا إليه أولادهم أن يَحْرُسُوه، وكانوا يَزْعُمُون قبله أن البغاة لعلهم يستغيثون إليه، فيقضى بمأمولهم ويُنْجِحُ حاجاتهم، ولم يكن يَخْطُر ببالهم ما انتهى إليه الأمر. وبينما هم في ذلك إذ بَلَغَ عليًّا رضي الله عنه نبأ شهادته، ففرَّ ييَعْدُو ولَطَمَ حُسَيْنًا رضي الله عنه، وقال: أنت ههنا؟ واستشهد عثمان رضي الله عنه، فقال: ليس عندنا به علم، لأن البغاة نزلوا من فوق الجدار، ولم يَدْخُلوا من الباب. ثم رأيت: أن الناس أرادوا أن يُدَافِعُوا عنه فأبى عثمان رضي الله عنه، وقال: لا أحب أن تُسْفَكَ قطرةُ دَمِ امرىءٍ مسلمٍ من أجلي، حتى سألوه عُبَيْدة فأجاب: أن كل من يَغْمُدُ السيف منكم فهو حرٌّ. وهكذا منذ بَدْء الزمان: أن من لا يَنْتَصِر لنفسه، لا يُنْصَر له، ويَتَنَحَّى عنه الناس. 695- قوله: (فقال: الصلاة أحسن)... الخ، وعُلِمَ منه أن المُسِيء لو فَعَلَ فِعْلا حَسَنًا، فهو حَسَنٌ، ولا يصير قبيحًا.
وهو المسألة عندنا. نعم إذا كان اثنان، فالأحسن أن يتأخَّرا عنه. 697- قوله: (فَصَلَّى أربع ركعاتٍ) وهي السنة بعد العشاء. 697- قوله: (ثم قام.. فَصَلَّى خمسَ ركعاتٍ)، وهذا القيام لصلاة الليل، وقد عَلِمْتَ الاختلاف في عدد صلاته صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة، وأن الرَّاوي قد اقتصر فيه على ذكر قطعة من صلاته، وترك باقيها.
وهكذا فَعَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مع ابن عبَّاس رضي الله عنه في مبيته في بيت خالته. واسْتَفَدْتُ أن الكراهة إذا طرأت في الصلاة، ينبغي أن تُرْفَع في خلال الصلاة. ولا توجد تلك المسألة في الفقه، وإنما اسْتَنْبَطْتُها من هذا الحديث. 698- قوله: (فصلَّى ثلاثَ عشرةَ ركعةً) هذه ركعات النبيّ صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة. وقد اختصر فيه الرَّاوي في الرواية المارَّة. وفي إسناده مَخْرَمة وعند الطَّحَاوي قَيْس بدله، والصواب مَخْرَمة كما في هذا الكتاب. ثم عن مَخْرَمة هذا أن تلك الخمسة هي ركعتان من صلاة الليل وثلاث الوتر، كما قرَّرناه سابقًا. والاضطجاع في تلك الواقعة قبل سنة الفجر بعد صلاة الليل.
ونية الإمامة ليست بشرطٍ عندنا أيضًا إلا في مسألة المحاذاة، فإِن مسائلها لا تأتي إلا عند نية الإمام إمامتها.
(نية المفارقة) وهذا أيضًا من فروع القدوة، فجوز عند الشافعية أن يتحوَّل المقتدي إلى الاقتداء. وحملوا هذه الواقعة على أنه لم يَخْرُج عن صلاته، بل تحوَّل إلى الانفراد من خلال صلاته. قلتُ: وعند مسلم صراحةً: «أنه سلَّم ثم صلَّى لنفسه في ناحية المسجد»، وعلَّل النووي هذا اللفظ. وعندنا لا سبيلَ للخروج عنها إلا بعملٍ مُفْسِدٍ، ولا أثر للنيات، فإن نَوَى المقتدي أن يَخْرُجَ عن الاقتداء، أو نَوىَ المُنْفَرِد أن يتحوَّل إلى الاقتداء، ليس له ذلك، وهما على حالهما كما كان. وإنما السبيل أن يسلِّم، أو يَعْمَلَ عملا يَخْرُج به عن صلاته، ثم يَدْخُل في صلاة أخرى. 701- قوله: (قال: كان مُعَاذ يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وعلم أن الكلامَ في صلاة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصلاته بقومه طويلٌ يحتاج إلى تَعَمُّل فِكْرٍ، وإمعان نَظَرٍ، وعليه تُبْتَنَى مسألة اقتداء المُفْتَرِض خلف المتنفِّل، واختاره الشافعية. فإن ثَبَتَ أن مُعَاذًا كان يصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فريضته، ثم كان يصلِّي بقومه أيضًا ثَبَتَ اقتداء المُفْتَرِض خلف المتنفِّل وإلا فلا. ولا يجوز عندنا للتضمُّنِ المُعْتَبرِ بين صلاة الإمام وصلاة المقتدي، وكذا عند أحمد رحمه الله تعالى، وعند مالك رحمه الله تعالى في روايته. وعند الترمذي: أن الإِمام ضامنٌ، فلا بُدَّ أن يكون التضمُّن مُرَاعى. ثم إن الطَّحَاويَّ ذكر في «شرح معاني الآثار»: أن الفريضة تحتوي على أمرين: ذات الصلاة، ووصف الفرضية، بخلاف النافلة، فليست فيها إلا ذات الصلاة. فإن قلتَ: قد اعْتُبِرَ فيها وصف النفليَّة، فاشتملت على الأمرين أيضًا كالفريضة. قلنا: كلا، فإن النفل وإن كان وصفًا، لكنَّ ذات الصلاة لا تنفك عنه عند الإطلاق بخلاف الفرضية، ولذا يُحْتَاجُ فيها إلى النية الزائدة على نفس الصلاة. فلا تَقَعُ فريضة إلاّ بعد نيتها بخلاف النفل، لأنه أدنى مرتبة الجنس، فَتَقَعُ عليه عند انعدام النية أيضًا. إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم: أنَّ الإمام إن كان متنفلا فصلاته نصف صلاة المقتدي المُفْتَرِض على الفرض المذكور، والشيء لا يتضمَّن إلا ما هو دونه أو يساويه، ولا يتضمَّن ما فوقه؛ بل يستحيل أن يتضمَّنه، ثم إن ههنا دقيقة أخرى غَفَلَ عنها الناس وغَلِطُوا فيها، حتى وقع فيه بعض من علماء المذاهب الأخرى أيضًا، فيَزْعُمُون أن المذهب عندنا هو التنفُّل دون الإعادة، فيعيدها ويَنْوِي النفل، وإعادة الصلاة بنية النفل هو الذي عَنَوْه بالتنفُّل والمذاهب الأخرى قائلةٌ بالإعادة، أي يصلِّي تلك الصلاة بعينها ولا ينوي النفل، حتى أنهم اختلفوا في أن أيًّا من صلاتيه تقع عن الفريضة: فقال بعضهم: إن الفريضة تَسْقُطُ بأُولى صلاتيه. وقال آخرون: بل تَسْقُطُ بأكمل منهما، ولا يُحْكَم على إحداهما بتًا، كما في «الموطَّأ» عن ابن عمر رضي الله عنه لمَّا سُئل عن ذلك فوَّضه إلى الله. الحاصل: أن الحنفية عامتهم يُعَبِّرُون في صلاة مُعَاذ رضي الله عنه أنها كانت نافلة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفريضة في قومه، وتخالفه ألفاظ الأحاديث جملة. فإن الرواة كافة يُصَرِّحُون بأن مُعَاذًا كان يصلِّي بهم عينَ ما كان يصلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولا يقول واحدٌ منهم: إنه كان يُصَلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم نافلةً؛ بل كلهم يقول: إنه كان يصلِّي العشاء خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويُصَلِّي بهم أيضًا تلك. وهذا القصور في عبارات المتأخِّرين. والقدماء منا لم يقولوا إلا بالإعادة، ولم يفهم واحدٌ منهم أنه كان ينوي النفل، بل في الكُتُب الأربعة لمحمد رحمه الله تعالى لفظ الإعادة، وهي اسم لتكرار عين الصلاة، فيُصَلِّي العشاء ثم يصلِّيها ثانيًا بذلك الاسم، ولا ينوي النفل. وبه صَرَّح الطحاويُّ في موضعين، فنصُّ الطحاويِّ في واحدٍ منهما: فلا بأس أن يفعل فيها ما ذُكِرَ، ثم من صلاته إياها مع الإمام على أنها نافلة له غير المغرب... الخ. وفي موضعٍ آخر وممن قال بأنه لا يُعَاد من الصلاة إلا الظهر والعشاء الآخرة: أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى ا ه. فصَرَّح أن الإعادة مُعْتَبَرَةٌ عندنا أيضًا، كما هو عند سائر الأئمة، إلا أنه في الصلاتين فقط. ومعنى قوله على أنها نافلة: أي أنه لا ينوي النفل، ولكنه تَقَعُ عنه نافلة إذ سَقَطَ فرضه عن ذمته بأُولى صلاتيه إن كان نَوَى بها إسقاط الفريضة، وحينئذٍ اتَّضَحَ أن المذهب أنه يصلِّي صلاةً واحدةً مرتين، بمعنى أنها إن كانت عشاءً يُعِيدُها عشاءً، ولا ينوي غير العشاء، وإن ظهرًا فظهرًا، وهكذا. نعم إن نَوَى إسقاط الفريضة بأُولى صلاتيه لا تقع الأخرى إلا نافلةً، وذلك لأن ذمته قد فَرَغَت بالأُولى، فلا تقع الثانية إلاّ نفلا، ولعلك فَهِمْتَ الآن الفرق بين قولنا: تنقَّل بكذا أو صلّى نافلةً، وبين قولنا: صلَّى على أنها نافلة. فإن الأول يَدُلُّ على نية النفل، والثاني على أنه لم ينو إلاّ عينَ تلك الصلاة، ثم وقعت نفلا بدون نيةٍ منه. فإن قلتَ: إنك إذا نَوَيْتَ العشاء في الموضعين، فكيف تقع الثانية نافلة؟ قلتُ: كصلاة الصبيان، فإنهم لا يَنْوُون صلواتهم إلاّ بأسمائها كالفجر والظهر وغيرهما، ثم لا تقع عنهم إلاّ نافلةً، لا أنهم يَنْوُون نفلا ويُصَلُّون متنفِّلين من أول الأمر. فهكذا حال من أسقط الفريضة عن ذمته مرةً، فإنه أيضًا ينوي تلك الصلاة، ولا تقع عنه إلاّ نافلةً، وهو الذي عَنَاه الطحاويُّ بقوله: على أنها نافلة. ثم إن الطحاويَّ لم يَذْكُر بين الأئمة خلافًا في نفس الإعادة، فعُلِمَ أن الإعادة متفقٌ عليها إجماعًا. وإنما الخلافُ في إعادة الكلِّ أو البعض منها، فذَهَبَ الشافعيةُ إلى أنه يُعِيدُ الصلوات الخمس، وذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يُعِيدُ إِلاّ الظهر والعشاء. فلا ينبغي إقامة الخلاف في نفس الإعادة بعد هذا الصَّدْع والإعلان. ومن ههنا تبيَّن أن من قال: إنه كان يُصَلِّي في قومه تَطَوُّعًا، فقد أخذ بالثمرة، ثم وقع الناس في المغالطة من تعبيره. مع أن الحق ما حقَّقناه، وخلافه خلاف الصواب. وإذا تقرَّر هذا، لم يبقَ بيننا وبين الشافعية خلاف في صلاة مُعَاذ رضي الله عنه، إلا أنهم قالوا: إن أُولى صلاتيه كانت فريضةً والأخرى نافلةً، وقلنا بعكسه. وحينئذٍ اعْتَدَلْنَا ككفتي الميزان، لا مَزِيَّة لهم علينا، لأن ما ادَّعُوه من باب الرجم بالغيب، فمن أين عَلِمُوا أن صلاة مُعَاذ رضي الله عنه خلف النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت هي الفريضة ولا يُعْلَمُ حال النية إلاّ من قِبَلِهِ، وما لم يبيِّن هو بنفسه، فجَعَلَ أُولى صلاتيه فريضة تحكم، لِمَ لا يجوز أن تكون تلك نافلة، والأخرى بعكس ما قلتم؟ فإن قلتَ: إن مُعَاذًا رضي الله إذا نَوَى العشاء أول مرة على ما قلتم، وقع عن فريضة لا مَحَالة. قلتُ: كلاّ، فإنك قد عَلِمْتَ في مُفْتَتَحِ الكلامِ أن الفريضةَ تَحْتَاجُ إلى نيةٍ زائدةٍ على أصل الصلاة، وهي نيةُ وصف الفرضية، فإنه يتضمَّن أمرين: الصلاةَ، وذلك الوصف. فإذا أَطْلَق في النية ولم ينوِ هذا الوصف، لا تقع إلاّ نافلةً، ولعلّ صلاة مُعَاذ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كانت لإحراز فضيلة جماعة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصلاته في قومه كانت لإسقاطها عن ذمته، بل هو الظاهر على أصلنا. فإنه كان إمام قومه، فلا بُدَّ أن ينوي صلاةً يَصِحُّ اقتداؤهم به، وذلك على ما قلنا. ولسنا ندَّعي أنه كان يَفْعَلُ كذلك؛ بل نقول: إنا نتوازن في الفِعَال حذو المثقال، ولا نرضى بِخطَّة عَسْفٍ. على أنك قد عَلِمْتَ فيما سَلَفَ؛ أن الصلاةَ حقيقةٌ واحدةٌ تَشْتَرِكُ بين الفريضة والتطوُّع، وإنما تختلف من جهة لُحُوق الأمر وعدمه، فإذا لَحِقَ بها الأمر صارت فريضةً، وإلاّ بقيت نافلةً، فلا فرق بينهما إلاّ بلُحُوق الأمر وعدم لُحُوقه، وهو من الخارج لا من نفس حقيقتها، وعلى هذا، ففي الموضعين هي العشاء لا غير، وإنما الفرق بينهما بكون إحدى العشاءين مأمورًا بها، والآخرى غير مأمورٍ بها، وذلك لا يوجب سَلْب اسم العشاء عمَّا لم يُؤْمَر بها. أَلا ترى أن صلاة الصبيان لا تُسَمَّى إلاّ باسم العشاء مع عدم كونهم مأمورين بها؟ فَعُلِمَ أنه لا فرق في إطلاق الاسم على ما هو مأمورٌ بها، وعلى ما ليس بمأمورٍ بها، فهي العشاء في كلا الموضعين، نعم التي نَوَى بها براءة ذمته هي الفريضة لكونها مأمورًا بها بخلاف الأخرى، وذلك إليه، أسقط فريضته من أي صلاتيه شاء، وإنما يَصْعُب فَهْمُهُ على الذهن الذي ارْتَاضَ بإطلاق العشاء على الفريضة فقط، ولم يتَّفِقْ له أن يُعِيدَ العشاء على أنها نافلة كما في هذا الزمان. وأصْرَحُ ما احتجَّ به الشافعيةُ رحمهم الله تعالى ما رواه الشافعيُّ عن جابر في هذا الحديث زيادة: «هي لهم فريضةٌ وله تطوُّعٌ»، أي يقع له تطوُّع، وهو في «المشكاة» أيضًا. قلتُ: وعلَّله الطحاويُّ، وكذا علَّله أحمد رحمه الله تعالى وقال: أخشى أن لا يكون محفوظًا، ونقله ابن الجوزي، وأبو البركات الحافظ مجد الدين ابن تيمية الحرَّاني أيضًا، وأراد الحافظ رحمه الله تعالى أن يقوِّيه شيئًا، فأخرج له طُرُقًا عديدةً، لكنه أَلانَ في الكلام، لأن مَقَالة أحمد رحمه الله تعالى بين عينيه. قلتُ: والوجدان يحكم بأنه مُدْرَجٌ، لأن في إسناده ابن جُرَيْج، ومذهبه جواز اقتداء المُفْتَرِض خلف المُتَنَفِّل، ولعلّ الإدراج جاء من قِبَله، وإنما يتأخَّر في مثل هذه الأمور مَنْ لا يجرِّب الأمور، فلا يمكن أن يَثْبُت على قدميه، أمَّا مَنْ رزقه الله علمًا ووفَّقه، فهو على نور من ربه، يَحْكُمُ بحسب ذوقه: صدَّقه أحدٌ أو لا. والجواب الثاني له: أنا لو سلَّمنا أن مُعَاذًا رضي الله عنه كان يُصَلِّي بهم مُتَنَفِّلا، فأي دليلٍ عندكم على أنه صلى الله عليه وسلّم كان يَعْلَمُه أيضًا؟ فَرُبَّ أشياءَ قد فُعِلُت بمحضرٍ منه صلى الله عليه وسلّم ثم إذا اطَّلَعَ عليها نهى عنها، كالتيمم إلى الآباط والمناكب، والتمعُّك في التراب، وله نظائر غير محصورة، لا سِيَّما إذا كان عندنا ما يَدُلُّ على أنه إذا عَلمَه نَهَى عنه، فقد أخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لمَّا بَلَغَه خبرَه نَهَى عنه، وقال: «إمَّا أن تصلِّي معي، وإمَّا أن تخفِّف عن قومك»، وهو في «المسند» لأحمد والبزَّار، وحَكَمَ عليه ابن حَزْم بالإرسال واختلفوا في شرحه على ثلاثة أقوال. الأول: ما شَرَحَ به الطَّحَاوِيُّ، وهو الأرجح، أي إمَّا أن تصلِّي معي فقط، فلا تُصَلِّ مع قومك، وإمَّا أن تُصَلِّ مع قومك، أي فلا تُصَلِّ معي، فَنَهَى على هذا التقدير عن الإعادة رأسًا، لأن الصلاة مرتين كانت تُوجِبُ التثقيل عليهم، لتأخُّره عَنهم بالصلاة مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهذا الشّرْحُ يُبْنَى على أنه لم يكن عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عِلْمٌ من صلاته مرتين، فإذَا عَلِمَه نَهَى عنه، وعلَّمَه أن لا يُصَلِّي إلا مرَّة إمَّا معه، أو مع قومه، وذلك لأنه قال: «إمَّا أن تُصَلِّي معي»، فَعُلِمَ أنه لم يكن عن خبره من أنه يصلِّيها معه أيضًا. ولو كان له عِلْمٌ أنه يصلِّيها معه أيضًا، لم يَقُل له: «إمَّا أن تُصَلِّي معي». والشرح الثاني للحافظ ابن حَجَر رحمه الله تعالى حيث قال: معناه إمَّا أن تصلِّي معي فقط، أو تُصَلِّي معي وتخفِّف عن قومك. وحاصله: أن المعادلة في الحقيقة بين الشيء والشيئين، فأمره بالصلاة معه فقط، فإِن أبى إلا أن يصلِّي مع قومه أيضًا، فعليه أن يخفِّف، وذلك لأن «إمَّا» و«أو» يقتضيان التَّقَابُل، ولا يستقيم التَّقَابُل بين الصلاة معه، والتخفيف عن قومه، بل الصحيح منه بين التخفيف والتطويل، أو الصلاة معه والصلاة معهم. وإنما اضْطَر الحافظ رحمه الله تعالى إلى هذا الشرح، لأنه أراد أن تكون إعادته في عِلْم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأنه نافعٌ له، وتعسَّر عليه قوله «إمَّا أن تصلِّي معي»، فجعل المقابلة بين الأمر والأمرين. فبناء هذا الشرح على أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يَعْلَمُ إعادته، فعلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إمَّا أن يصلِّي معه فقط، أو يصلِّي على عادته في الموضعين، فحينئذٍ، يخفِّف عنهم. قلتُ: وحمل الأحاديث على المذهب بحذفٍ وتقديرٍ ممَّا لا يَعْجَزُ عنه الفحول، وهذا يمكن من كل أحدٍ، ولكن الأَرْجَحَ ما تَبَادر إلى الذهن بدون تَسَاهُلٍ وتَمَحُّلٍ، ولذا رجَّح ابن تَيْمَيِة شرح الطَّحَاوِيِّ. والشرح الثالث لأبي البركات ابن تَيْمَية وهذا نصُّه من «المنتقى» قال: لأنه يَدُلُّ على أنه متى صلّى معه امْتَنَعَتْ إمامته، وبالإجماع لا تَمْتَنِعُ بصلاة النفل معه، فعُلِمَ أنه أراد بهذا القول صلاة الفرض، وأن الذي كان يصلِّي معه كان ينويه نفلا ا ه. وحاصل هذا الشرح: أن مُعَاذًا كان يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو ظاهرٌ، فلا معنى لقوله: «إمَّا أن تُصَلِّي معي» فلا بُدَّ أن يُقَال إن صلاته في ذهن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لم تكن أصلية، بل كانت نافلة، فأمره أن يُصَلِّي معه، أي الصلاة الأصلية، وهي التي أُرِيدَ بها إسقاط الفريضة، أو يخفِّف عن قومه. وبناء هذا الشرح على أن تكراره كان في علم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولكن ما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من حاله هو أنه يُصَلِّي خلفه نافلةً، ومع قومه فريضةً، فعلَّمه أن لا يفعل كذلك فيما يأتي، بل إمّا أن يصلِّي معه الصلاة الأصلية وينوي بها إسقاط الفريضة، فلا يُصَلِّي مع قومه، وإمَّا أن يصلِّي معه كما كان يُصَلِّي بدون نية إسقاط الفريضة، وحينئذٍ فعليه أن يخفِّف عن قومه. قلتُ: ولا أراكَ تريبُ في أن أُرَجِّحَ من الشروح ما اختاره الطَّحاوي. بقي نظير الحافظ بعدم صحة المقابل على هذا التقدير، فأقول في جوابه إن المعادلةَ قائمةٌ ولطيفةٌ، وهي عندي على حدِّ قوله تعالى: {افترى على اللَّه كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ} (سبأ: 8) فقابل بين الافتراء والجِنَّة، والذي يقتضيه سَوْقُ الكلام أن يكون هذا افترى على الله كَذِبًا أم لم يَفْتَرِ لأن المعادل صراحةً هو عدم الافتراء، ولكنه حذفه وأقام مقامه لازمه وهو الجنون، لأن الجنونَ لا افتراءَ له فهكذا نقول: إن أصل الكلام إمَّا أن تصلِّي معه، فاقتصر عليها، ولا تُصَلِّ بهم ثقيلةً أو خفيفةً، وإمَّا أن تُصَلِّي معهم، فعليك أن تخفِّف. وإنما حَذَفَ أن تصلِّي من المعطوف لأن المقصود من الصلاة معهم كان التخفيف، لا نفس الصلاة. فذكر الجزء المقصود ههنا، وحذف الصلاة معهم اختصارًا واعتمادًا على المعادل الآخر. فأصل المعادلة بين الأربعة، حَذَفَ الاثنين منها، كما حَذْفَ من قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} (البقرة: 222) فإذا تَطَهَّرْنَ على ما قررنا، فإن ما بعد الغاية لا يَلْتَئِمُ فيه ممَّا قبلها، والجواب كما مرَّ: أن أصل الكلام حتى يَطْهُرْنَ وَيَتَطَهَّرْنَ.. الخ. فَحَذَفَ أحد المعادلين للقرينة الظاهرة، أما الكلام في إسناد رواية الطَّحَاوِيِّ، فقد ذكرناه في الترمذي. والجواب الثالث للطَّحَاوِي: أنا لو سلَّمنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يَعْلَمُ صنيعه ذلك، ومع ذلك لم يُنْكِرْ عليه، فأيُّ دليلٍ عندكم على أنه لم يكن في زمنٍ كان يصلِّي فيه الفرائض مرتين، ومرَّ عليه ابن دقيق العيد في «شرح عمدة الأحكام»، وقال: إن الطَّحاويَّ وإن حَمَلَه على زمان تكرار الفرائض، ولكن لم يبيِّن مُسْتَنَده في ذلك. قال الحافظ رحمه الله: وكأنه لم يَقِفْ على كتاب الطَّحَاويِّ، فإن الطَّحَاوِيَّ قد ذكره في باب صلاة الخوف، وذكر نسخه من قوله: «لا تُصَلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين»، قلتُ: ورجاله كلُّهم ثقاتٌ إلاّ خالد، وقد ذَكَرْتُ تحقيقه في درس الترمذي. فهذه ثلاثة أجوبة للطَّحَاويِّ، وذلك تقريرها، والذي كُشِفَ لي بفضل المفضل المنعام: أنه لا تكرار ههنا أصلا إلا في واقعة، فإن ما يذكره الرواة في عادته هو صلاته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصلاته في قومه فقط، أمَّا أنه كان يُصَلِّي بهم عينَ ما صلَّى خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلم يتكلَّم به أحدٌ منهم ولا حرفٍ، وإنما هو من بداهة الوهم، أَلا ترى إلى لفظ البخاريِّ: «كان مُعَاذ بن جبل يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قومه...» الخ، فأين فيه أنه كان يكرِّر صلاةً واحدةً بعينها، وإنما فيه أن عادته كانت بصلاته معه صلى الله عليه وسلّم ثم الصلاة بهم بعد رجوعه عنه، وليس فيه أنها كانت عينَ تلك الصلاة. والذي يتبَّين من الروايات أن ما كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم هي صلاة المغرب، ثم يَرْجِعُ إلى قومه فَيؤُمُّهم في العشاء. ثم إن مُعَاذًا رضي الله تعالى عنه لم يكن متفرِّدًا في ذلك، بل كان هذا دَأْبُ قومه، فكانوا يُصَلُّون المغرب مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجِعُون ويصلُّون العشاء في ظلمةٍ من الليل. فقد أخرج الطَّحَاوِيُّ في باب القراءة في صلاة المغرب، عن الزُّهْرِيِّ، عن بعض بني سَلَمة: «أنهم كانوا يُصَلُّون مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم المغرب، ثم يَنْصَرِفُون إلى أهلهم وهم يُبْصِرُون موقع النَّبْلِ على قدر ثلثي ميل». ا ه- وعن جابر بن عبد الله قال: «كنا نُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم المغربَ، ثم نأتي بني سَلَمة وإنَّا لَنُبْصِر مواقع النَّبْل». ا ه. وعن عليِّ بن بلال قال: «صلَّيت مع نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأنصار، فحدَّثوني أنهم كانوا يُصَلُّون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب ثم يَنْطَلِقُونَ يَرْتَمُونَ لا يَخْفَى عليهم موقع سهامهم، حتى يأتوا ديارهم، وهم في أقصى المدينة في بني سَلَمة». ا ه. وبنو سَلَمة هؤلاء هم قوم مُعَاذ رضي الله تعالى عنه، وقد عَلِمْتَ من عادته ما كانت ثم إن قصة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه يرويها جابر رضي الله تعالى عنه، وهو نفسه يروي ما كانت عادة قومه، فلا تكون عادة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه خاصةً مع قطع النظر عن عادة قومه كائنةً ما كانت، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله: «أن مُعَاذ بن جبل كان يُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب، ثم يَرْجِعُ إلى قومه فَيَؤُمُّهم». ا ه. قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. فدلَّ صراحةً على أن مُعَاذًا رضي الله تعالى عنه لم يكن يُصَلِّي العشاء مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بل التي كان يصلِّيها معه صلى الله عليه وسلّم هي المغرب، ثم كان يَرْجِعُ إلى قومه وهم بنو سلمة- فكان يَؤُمُّهم في العشاء، ومرَّ عليه البيهقي، ولمَّا لم يَتَنَبَّه على ما قلنا، علَّل ذكر المغرب زعمًا منه أن الصلاة التي كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم هي العشاء، قلتُ: كلا، بل هو صحيحٌ، ولا مرد له ولا وجه لإعلاله بعد ما علمنا من عادة قومه أيضًا. وإذا تبيَّنت وتيقَّنت أن أي صلاتي مُعَاذ كانت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأيها كانت مع قومه، عَلِمْتَ أنه لا تكرار ههنا، نعم اتَّفَقَ ذلك مرةً واحدةً فقط، حيث صلَّى مُعَاذ المغرب مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم لم يَزَلْ جالسًا معه صلى الله عليه وسلّم حتى صلَّى العشاء، فأبطأ عليهم، ثم أمَّهم بنحو سورة البقرة، وبلغ خبره إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فنهى عنه. فهنا أمران: الأول صلاته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في المغرب ومع قومه في العشاء، وهذه كانت عادته المستمرة. والثاني تكرار العشاء، ولم يكن ذلك عادة له، وإنما وقع مرةً فقط، ثم أنكر عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واختلط على عامتهم هذان الأمران، فكلما يذكر الرَّاوي الأمر الأول يحملونه على الثاني وهو الذي حَمَلَ البيهقيُّ على إعلال لفظ المغرب مع أنه صحيحٌ، وأنكر القاضي أبو بكر بن العربي التكرار أيضًا كما مَّهدت القول فيه. ثم إن الدليلَ على أن التكرارَ في العشاء لم يكن عادةً له وإن كانت واقعة جزئية، ما ساقه أبو داود في باب تخفيف الصلاة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «كان مُعَاذ رضي الله تعالى يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجعُ فَيَؤُمُّنَا». قال مرة: «ثم يَرْجِعُ فيصلِّي بقومه». وهذا هو عادته وعادة قومه، وليس فيه أنه كان يُصَلِّي بهم عينَ ما كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبعد ذلك انتقل الراوي إلى بيان تلك الواقعة، فقال: «فأخَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الصلاةَ- وقال مرةً: العشاء- فصلَّى مُعَاذ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الصلاةَ، ثم جاء يَؤُمُّ قومه، فقرأ البقرة» ا ه. وسياقه في المتفق عليه قال: «كان مُعَاذ بن جبل يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يأتي فَيَؤُمُّ قومه. فصلَّى ليلةً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم العشاءَ، ثم أتى قومه فأمَّهم». ا ه. فانظر هل أدَّاه بطريق الواقعة، أو على شاكلة العادة، ثم انظر إلى ألفاظ الرجل الذي انحرف عن صلاته هل جعله عادةً، أو واقعةً؟ قالا: «وإن مُعَاذًا صلَّى معك العشاء، ثم أتى قومه فافتتح بسورة البقرة». فهذا كان من أمر معاذ رضي الله عنه، إلا أنه لمَّا ذُكِرَت واقعة العشاء فيما بعد، سَرَى إليَّ الوَهَمُ أن ما ذُكّرَ قبله من عادته هو أيضًا في العشاء، مع أنه ذَكَرَ أولا عادته، ثم انتقل إلى بيان الواقعة. والوَهَم يَعْمَلُ العجائب، وقد قيل: إن الوَهَم خلاق. فإِذا تحقَّقت أنه لم تكن هناك إلا واقعة، وعليها غَضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم غضبًا لم يَغْضَبْ مثله، تحقَّقت أن لا دليل فيها للشافعية، وللحنفية مَسَاغٌ لأن يجعلوا مورد الغضب الأمرين أعني: إطالته، وإعادته. ثم إني تتبعت هذه الواقعة أنها متى كانت، فتبيَّن لي أنها كانت قُبَيْل بدر، وقد ذكرناها في تقرير الترمذي. هذا وبقي بعدُ خبايا في زوايا الكلام، والعلم عند الله العلام. 701- قوله: (وأمره بسورتين) فليحفظ هذا اللفظ، لأن فيه أنه أمره بهما فَيَدُلُّ على الوجوب كما قال الحنفية؛ والشافعية لم يختاروا وجوب السورة، وإليه يُشِيرُ قوله: «فلولا صلَّيت بسبح اسم ربك الأعلى...» الخ أمَّا أنا، فلا أرى فرقًا بين الفاتحة والسورة في سِيَاق الأحاديث، غير أن الفاتحة واجبةٌ عينًا، والسورة واجبةٌ بدلا إلا أن من صَرَفَ جميع همته في إثبات الركنية للفاتحة فَتَرَ في إثبات الوجوب للسورة، ولم يَسَعْ له غير السنية، فإن لكل شِرَةٍ فَتْرَة.
أراد أن ينبِّه على محل التخفيف، وهو القيام، فيطوِّلُ فيه ويَقْصُرُ بِحَسَبِ التارات والحالات. أمَّا الرُّكوع والسجود، فَيُتِمُّهُمَا في كل حال. قلتُ: ويُعْلَمُ من سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهديه أنه كان لركوعه وسجوده مقدارًا محدودًا، بخلاف القيام فإنه كان يَخْتَلِفُ باختلاف الأحوال. ثم إن هذا في الفرائض، بقيت صلاة الليل، فكان ركوعها وسجودها وقيامها كلها غير منتظمةٍ، لأنها كانت صلاته لنفسه، والرجل مخيَّرٌ فيها. مسألة: تردَّد في «البحر» فيمن يَقْدِرُ أن يصلِّي قائمًا منفردًا وبالجماعة قاعدًا، أيُّهما أفضل له؟ قلتُ: وعندي الأفضل هو الثاني لما عند أبي داود «أن المرضى في عهده صلى الله عليه وسلّم كان يُؤْتَى بهم إلى المساجد». 702- قوله: (من أجل فلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بنا) قيل هو مُعَاذ رضي الله عنه، وقيل هو أُبَيّ رضي الله عنه، لأنها واقعة الفجر، وتطويل مُعَاذ رضي الله عنه كان في العشاء، ومن يراهما متحدين يلتزم أن مُعَاذًا رضي الله عنه طوَّل فيهما. ومن جعلها قصة أُبَيّ رضي الله عنه، ثم رأى جملة: «فإن منكم مُنَفِّرين...» الخ في حديث مُعَاذ رضي الله عنه، حكم بكونها وَهْمًا في حديثه. وصنيع البخاري يَدُلُّ على أنها ثابتة فيهما عنده، وخالفه الحافظ رحمه الله تعالى، وقال: إنها وَهْمٌ في قصة مُعَاذ رضي الله عنه.
أراد أن ينبِّه على جواز الشِّكَاية في أمر الخير المحض إذا احتاج إليه، فإن الصلاةَ خيرُ موضوعٍ، ثم شَكَى فيها رجلٌ، فهل يَجُوزُ ذلك؟ ولولا أن المصنِّف رحمه الله تعالى نبَّه عليه لربما تحيَّرنا فيه، فهو مهمٌ إذن. ومثله فِعْلُ المصنِّف رحمه الله تعالى في منع القارىء. عند قراءة القرآن، هل يَجُوزُ أن يمنعه عن قراءة القرآن؟ واستدلَّ على جوازه بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «حَسْبُكَ حين بَلَغَ القارىء إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (النساء: 41) إلخ كما سيجيء. والحاصل: أن الأمرَ إذا كان خيرًا محضًا في طرفٍ يشتدُّ على النفس النهي عنه من طرفٍ آخر، فهدى المصنِّف لمثله: أنه يجوز إذا كان لمعنى صحيحٍ، وفي إسناده قَيْس بن حازم، وقال أحمد رحمه الله تعالى فيه: إنه أفضل التابعين عندي، وقال آخرون: ليس في التابعين أحدٌ رأى العشرة المبشَّرة غيره، ثم مذهبه تَرْك رفع اليدين، كما في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة، فلو كان الترك معدومًا محضًا، أو حاملا كما قالوا، لَمَا اختاره من كان رَأَى الأجِلَّة من الصحابة رضي الله عنهم. والحق أن التركَ لا يمكن إعدامه إلى يوم القيامة، وإن جَلَبَوا عليه بخيلهم ورجِلِهم، فإنه من سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تحيى إلى يوم الدين إن شاء الله تعالى، ولا ندَّعي أن الرفعَ ليس بسنةٍ أو خاملٍ، ولكن نُبيِّن حَمْلَةَ الخصوم علينا، حيث يريدون أن لا يبقى في الجنة للحنفية موضع. 705- قوله: (أَحْسِبُ هذا) أي تلك الجملة، فإنها محفوظة في حديث مُعَاذ رضي الله عنه، وليست وَهْمًا كما قيل، ولذا أخرج له المتابعة.
يريد أن الإيجاز والإكمال يمكن اجتماعهما في صلاةٍ واحدةٍ.
أي كان يريد التطويل، ثم أَخَفَّها في خلال الصلاة، أو أَخَفَّها من أول الأمر، وصلاها ناويًا التخفيف من قبل، فأجاز بهما. وأعلم أن الشافعية أجازوا بالاختصار والإطالة معًا لقياس العكس، وقالوا: إذا جَازَ التخفيف في الصلاة لمكان الحاجة جَازَ التطويل أيضًا، وفَرَّق الحنفية بينهما، وقالوا: إن الاختصارَ تركُ ما كان لله، والتطويلَ زيادةٌ لغير الله. قوله: (وعن محمد أخشى عليه عظيمًا)، أي الكفر. واتفقوا على أن المراد منه كفر النعمة. قلتُ: والذي يَعْلَق بقلبي أن ينهى عنهما: أمَّا الطويل، فلسدِّ باب رعاية ذوي الهيئة، دون ذوي الحاجات. وأمَّا الاختصار، فلأن الفقهاء مَنَعُوا النساء عن حضورهنَّ الجماعات منفردات أو مع صبيانهن، فارْتَفَعَ باب الاختصار، واختار صاحب «الفَتَاوى»: جواز الإطالة في الركوع لإدراك الناس إذا لم يكونوا من رفقائه وممَّن يَعْرفُهُ، وإلا لا. 707- قوله: (أُرِيدُ أن أطوِّلَ فيها)، وهذا صريحٌ في التخفيف بعد إرادة التطويل، ورأيت في الخارج: «أنه قرأ فيها بالمُعَوِّذَتَيْنِ أو سُورَتَيْنِ مثلهما، فقال أصحابه: تجوَّزت يا رسول الله، فقال: أَمَا رأيت إلى الصبيِّ يَبْكِي، فَخِفْتُ أَن تُفْتَتَنَ به أمه».- بالمعنى. 707- قوله: (فأسْمَعُ بكاء الصبيِّ)، يمكن أن يكون الصبيان في بيوتهنَّ ويَسْمَعْنَ بكاءهم من المسجد، أو يكونوا في المسجد مع أمهاتهم. 709- قوله: (مِن شِدَّةَ وَجْدِ أُمِّهِ) الوجد: (دل بهرآنا).
وهو جائزٌ بالاتفاق، وأفتى ابن الهُمَام رحمه الله تعالى بفساد الصلاة إذا جَهَرَ بالتكبير أَزْيَد من الحاجة، ورَدَّ عليه الحموي، وقرَّر عدم الفساد وإن زَادَ على قدر الحاجة. 712- قوله: (فلا يَقْدِرُ على القراءة)، ولذا قلتُ فيما مرَّ: إن الاستخلاف في هذه الواقعة يمكن أن يُحْمَل على عذر الحَصْر، فإنه جائزٌ عندنا أيضًا، ولكنه عندي ضعيفٌ ههنا، فالأَوْلى أن يُحْمَل على الخصوصية، كما قال محمد رحمه لله تعالى.
وهذا الذي تَلَوْنا عليك من مذهب المصنِّف رحمه الله تعالى، هو عند الشيخ بدر الدين العَيْني رحمه الله تعالى، فاختار أن الاقتداءَ عنده مُسَلْسَلٌ، يقتدي الصف الثاني بالأول، ثم وثم. ونُسِبَ إلى الشَّعْبِي وابن جَرِير أيضًا. وصرَّح البخاري في «جزء القراءة». أن الركعة لا تُدْرَك بإدراك الركوع. وعلى هذا، فلو اقتدى رجلٌ برجلٍ بركوعه يَصِحُّ اقتداؤه به، ولا يُعَدُّ مُدْركًا للركعة. قلتُ: وما نَسَبَه إليه العَيْنيُّ رحمه الله من تَسَلْسُل الاقتداء، لا يجب أن يكونَ مختارًا له، ولعلَّه اتَّبَعَ في وضع الترجمة لفظ الراوي، ولم يُرِدْ التنبيه على التَّسَلْسُل. قوله: (ائْتَمُّوا بي ولْيَأْتَمَّ بكم مَنْ بَعْدَكم). أخذه البخاري في الإمامة والاقتداء في الصلاة، فمعناه عنده. ولْيَأْتَمَّ بكم من بَعْدَكم من الصفوف. وقال الجمهور: إن الائتمام في تعليم الدين، فاقتدوا أيُّها الصحابة أنتم بي، وليقتدِ الذين بَعْدَكم فيما يأتي من الزمان بكم، وهكذا كل خَلَفٍ يقتدي بسَلَفِهِ، وليس المراد به إمامة الصلاة والاقتداء فيها خاصة. 713- قوله: (فلَّما دَخَلَ في الصلاة، وَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نفسه خِفَّةً، فقام...) الخ، وهذا أَصْرَح في أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خَرَجَ إليهم في العشاء.
والبكاء إذا كان من وَجَعٍ أو مصيبةٍ يُفْسِدُ، وإن كان من ذِكْرِ الجنة أو النار فهو مطلوبٌ. وقد ثَبَتَ البكاء في الصلاة مرفوعًا، وإنما أخرج المصنِّف رحمه الله تعالى أثر عمر رضي الله عنه، لأن المرفوعَ لم يكن على شرطه. قوله: (وقال عبد الله بن شَدَّاد) وهذا هو صحابي صغير السن، نَكَحَ حَمْزةُ رضي الله عنه أمَّه، وهو الذي يروي حديث: «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة»، فلا أقل من أن يكون حديثه مرسل صحابي، مع أنه قد ثَبَتَ مرفوعًا أيضًا، وحقَّقناه في رسالتنا «فصل الخطاب».
ويسويه بالنحوين عند الضرورة، والمراد من قوله: «بعدها»: بعد الإقامة قبل التحريمة، وإن جَازَ بعد التحريمة أيضًا. وكان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه رجلٌ مُوَكَّلٌ على التسوية، كان يمشي بين الصفوف ويسوِّيهم، وهو واجبٌ عندنا تُكْرَه الصلاة بتركه تحريمًا، وسنةٌ عند الشافعية لانتفاء مرتبة الواجب عندهم، وذهب ابن حَزْم إلى أنه فرضٌ. ثم اختلفوا في تضعيف الأجر عند اختلاف الصفوف واختلالها، ونَقَل السيُوطي قولين عن الشافعية: الأول: أنه يحصل التضعيف مع وزر النقصان. والثاني: أنه يَحْبَطُ ثواب التضعيف. وعندنا في الصيام أن الثواب يَحْبَطُ في الصوم المكروه، وقيل: يَحْصُل مع النقصان، وعندي يَحْبَطُ في صوم يوم النحر والفطر، فإنه حرامٌ إجماعًا، وفي سائر أيام التشريق يَحْصَل شيءٌ منه. وأمَّا في الصلاة، فَيحْصُلُ أصل التضعيف، ويَنْقُصُ منه ما نَقَصَ فيه من الكراهة، بَقِيَ أن حَبْطَ الثواب لمن خالف فقط، أو للكل؟ قلتُ من عند نفسي: إنه لمن اختلف فقط، ومن سوَّى منهم فقد أَحْرَزَ الأجرَ. 717- قوله: (عمرو بن مُرَّة): هذا كوفي، ومذهبه تَرْكُ رفع اليدين، وراجع فيه مع النَّخَعِي، فقال له: إن كان أبوه رآه يرفع مرةً، فقد رآه ابن مسعود وأصحابه يتركه خمسين مرةً. وهو عند الطَّحَاويِّ أيضًا، وإسناده جيدٌ. ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه وأصحابه رَاجِعْهُ من رسالتي «نيل الفرقدين». 717- قوله: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُم): يعني أن الظاهر يُؤَثِّرُ في الباطن، فإذا اختلف في الظاهر، يختلف عليه الباطل أيضًا، ويوجب الخلاف والشقاق فيما بينهم. 718- قوله: (فإني أَرَاكُمْ) يعني أنكم إن لا تَسْتَحْيُون من الله فاسْتَحْيُوا مني، فإِني أراكم. وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنه كان معجزةً من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
719- قوله: (فأقبل علينا)، وعند أبي داود: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يأمرهم بالتسوية مُتَّكِئًا على خشبةٍ منصوبةٍ في المحراب، فإذا رآهم سَوَّوْا صفوفهم كَبَّرَ». 719- قوله: (أقيموا صُفُوفَكُم، وتَرَاصُّوا). وأعلم أن صفوفَ المصلِّين لمَّا كانت على صفوف الملائكة عند ربهم، كما هو عند أبي داود، بولِغَ في الأمر بالتسوية والتَّرَاصِّ لتكون الحكاية على شاكلة المَحْكِيِّ عنه، ولكونها أكمل طريق لأداء العبادة، ولذا امتازت به الأمةُ المرحومةُ، حتى قيل: إن عبادةَ بني إسرائيل كانت على طريق الحَلَقَة، ولم يكن الصف فيهم.
|